التجديد في الشعر العربي قضية ليست بالحديثة أو المعاصرة، فهي ممارسة دأب عليها الشاعر العربي منذ عصر ما قبل الإسلام وما بعده، حسب ظروفه وبيئته التي أملت عليه أشكال التجديد، فالشاعر ابن بيئته، ولا نريد أن نناقش في ما قدمه الشاعر العربي عبر قرون من حالات التجديد، فهذا موضوع اشبع دراسة وقدم فيه الكثير، ولكننا إزاء شاعر من المعاصرين لم يخرج عن هذه الروح التي تلبست الشاعر العربي في الإتيان بكل ما هو جديد، ليتم الانفعال والتفاعل بين الشاعر والمتلقي، خارج السياق الذي سارت عليه القصيدة الحديثة بعد ما جاء به التفعيلين من خروج على قصيدة الصدر والعجز، وحركات التغيير على بنية القصيدة العربية، والتجاذبات التي أخذت منها مأخذ بعيد حتى وصل بالبعض لتقديم قصيدة بعيدة عن بيئتها العربية والشرقية، تتقارب في الشكل مع بناء القصيدة الأوربية وتختلف حتى في النص، إلا إننا عندما نقرأ قصائد الشاعر موسى حوامده، بمجمل دواوينه التي أصدرها خلال السنين الماضية منذ ديوان ( شغب،1988 ) وصولا إلى آخر ديوان أصدره ( موتى يجرون السماء ، 2011)، نقف على حقيقة تظهر متتابعة في أعماله، انه شاعر لا يستقر في مكان، يختار الترحال من موقع إلى آخر وبما يريد، ثم يغادره إلى بُعدٍ تتراوح فيه هذه القوة الجارفة لإنتزاع الحقيقة الجوانية، والنظر إلى الأبعاد الأخرى التي تتحكم في مجساته، وكأنه يحاكم نفسه على كل خطوة مشاها، فهو لا يبرر ولا يقدح ولا يمدح، ويختلف في بناء القصيدة الحديثة، في ابتعاده عن الغموض نحو الوضوح والتبسيط، وهذه الروح المتمردة أخذت أبعادها في تجديد بناء القصيدة عندما بدأ ثورته الصارخة على الواقع والذات في ديوان ( سلالتي الريح..عنواني المطر )، ليقلب موازين المعادلة ويثبت أنه لا يقبل القسمة، إن ما يبثه هذا الوجد المتعالي المبني على أنواع من الحب اختاره بعناية ورسخه في داخله، ليظهر عبر كلمات اختارها بلغة صاغها بدلالات وإشارات وشفرات استدل بها للإشارة إلى المواجع الخاصة والعامة، من خلال ما إكتسبه من معارف وتجارب ليستلها من حواشي التاريخ أو حوادثه وحوادث العصر الحاضر، مستشهدا بها من تاريخ شعبه والشعوب الأخرى، ثم وقف من هذه الأرومة متطلعا ليراها تزدهر وتضيء من الداخل إلى الخارج، وعلى الرغم من اصطدامه بالواقع المر، فهو لا يقف مكتوف اليدين ينظر إلى خسارته، عبر السكوت للتغطية على خيبة الاختيار، إنما يعلن تمرده على ذاته أولا ومن ثم على الآخر: ( سامحيني يا أمي / لم اخطف الشمس بعد،/ لم أبدد تعاليمك يا بوذا، / أخلفت زماني ورائي وانأ أحمل جثتي/ للماضي أسير…… لن أصل غايتي/ لن يخدمني الرضا/ فكرة الليل مجبولة على الخداع ) سلالتي الريح عنواني المطر، قصيدة أقل مما يحبذ المزمار، ص 25.هذا التطلع المأساوي للخسارات يتحول عند موسى حوامده، ثورة تتأجج من الداخل لتظهر للخارج عبر اختياره لمفردات اللغة التي ينتقيها لتشكل لوحة تجانس بين الفكرة والواقع، متمردا فيها على ذاته وعلى اللغة من حيث هي أداة توصيل، فهو يخترع أدواته بنفسه، فيوجد هذه الثورة في النص عبر هذه المفردات المنتقاة، والتي تتحول بعض منها إلى رؤى فلسفية، تحمل تساؤلاتها التي تبقى الإجابة منوط بالتفسير الذي يضعه القارئ في تأويله لما يقرأ، لهذا نجد تعدد التأويلات في النص الواحد، مما يعطي المساحة لتعدد المفاهيم، ومن هنا يأتي التساؤل، هل هو متجدد أم يخترع التجديد ؟ فإذا ناقشنا الخطوات التي مر بها عبر السنين التي كتب فيها نصوصه ومقارنة مع مواقفه في الحياة اليومية، سيكون الجواب إن روح التجديد مجبول عليها من هذه الروح المتوقدة في حب التغيير، حينما يدرك أن الموقف الحياتي، يتطلب الوقوف للمراجعة الذاتية، وهنا تحدث نقطة التحول التي تسوق معها التحول في إيجاد المفردات والجمل التي تتواءم مع التغيير في الموقف، وكذلك الصور والرموز والشفرات، وإيجاد معابر من مختلف الأشكال لتوصيل الفكرة عبر قيم جمالية يصهر فيها كل الذي عرفه وخبره لينتقي منها ما يتطابق مع الموقف، واضحة خالية من تعقيدات القصيدة الحديثة التي سادت مفاهيمها في المنطقة العربية، من حيث ظل الفهم مجتزئ في تقليد النص الغربي، الذي يتوافق والحياة والبيئة التي يعيشها الشاعر هناك وهي مختلفة عما نحن نعيشه، تشتغل عند موسى الحوامده اللغة بالمفردات والصور المتلاحقة، بكلمات مألوفة تحمل بساطتها ودلالاتها، ومن يمتلك أداة شعرية، تبسط الرؤية للمتلقي وتتعمق بالجذور يملك ميزة قلما نجدها إلا في النادر من الشعراء المعاصرين، ” الشبيه بالنعامة أيامي،/ أيامك لم تسفر عن نتيجة لصالح الياسمين./ ظل الحطب الناشف وسيلة النجاة لديك، / دربك للوصول إلى دفء الكلمات، / ظل الدخان يأكل صدرك حتى ورثت سواد الليالي، ” ص31 موتى يجرون السماء… فهو إضافة إلى الرؤية النفسية الوجودية التي يضمنها أبياته، من خلال نقل معاناته اليومية، يجوس في دروب الرمز والأسطورة وتراثه الشعبي، بخيال ما وراء الطبيعة يمتد بشكل واسع بلا حدود ” لا تشبهني كلماتي/ تشبهك الغواية،/ أقل ما يقال/ عند أعتاب المشهد السريالي / جيش يتمطى بزيه ألحشيشي / بمعتقداته الوثنية / ونشيده الفرعوني الخالد / يتلقى أوامره من فظاعة في كتاب عتيق من مطبعة بولاق، / بعد أن فتح نابليون عقول المشرقيين / بعد أن قارعته عكا/ بعد أن ألقى طاقيته من على سورها/ بعد أن صار إماما للمسلمين / وشيخا للرهبان. ” ص62 سلالتي الريح عنواني المطر….إننا أمام ثلاثة عشر بيت يحتوينه ثلاثة عشر صوره واستشهاد، فيهم ثمانية نقلات ، فأي كاميرا تلاحق هذه المشاهد، وأي عقل يتحول لمسك هذا السيل من المعلومات، هذه القدرة المتجددة تجدها باستمرار مزروعة في قصائد الحوامده، ولكنه بالرغم من هذه الصور والشفرات المتلاحقة هناك وضوح وفهم للمعاني، انه يحاور التاريخ بمفردات الحاضر، بما يفهمه الإنسان البسيط وما يتعمق به المطلع، وهذه هي النقلة التجديدية في قصيدة الحوامده، إنه يمتد بالقارئ نحو آفاق من الخيال لترتيب الواقع، فالتفسير الأول لها، أنها قصيدة اجتماعية، تأخذ شكل الحالة النفسية التي تتحدث عن ذكريات ابن لأبيه أو يستذكر أمه، وتعكس واقعه بعد فقدهما، وهذا ما نجده يتكرر في قصائده، الحديث عن ذكرياته لامه وأبيه، والتأويل الثاني للقراءة أنه يزيح الهم الفردي على الواقع الاجتماعي والسياسي العام، وهو ما يحيلنا للنظر في استخدام الضمائر وتداخلاتها بين السؤال والجواب، فهو تارة يتحدث بلسان المخاطب وتارة بلسان الآخر ، وكذلك الجواب، وهو ما يحيل لإدراك أن الشاعر موسى حوامده، يتحرك برؤية مترسخه في بناء القصيدة ألحديثه بناء على ترابطه مع علاقاته تجاه الواقع والبيئة والظروف التي تتحكم به، ولا يترك المتلقي في حيرة لفك شفرات القصيدة ، إنما وضوحها من استشهاده بواقعه، وهو ما يشكل موقفه بناء على القناعة، وليس استعراضا ً ومن هنا يتأتى جديده بتحولاته في اختيار اللغة ومفرداتها و التشبيهات والصور والرموز التي يستشهد بها..
مؤيد داود البصّام: موسى حوامده وروح التجديد
تعليقات الفيسبوك