عبد الستّار ناصر: المفاجأة تتكرر في عين لندن لفاتح عبد السلام

منذ عرفته، وكان ذلك منذ وقت بعيد، وهو يكتب بذائقة قصصية خارج مذاق سرب الطيور العراقية. وأظنني قلت هذا في مقالة، وفي حوار، وفي محاضرة، وفي كتابي “سوق السراي”، الذي تناولت فيه روايته “اكتشاف زقورة”.

هذه المرة صارت المسافة، بين نوارس القصة، تزداد اتساعاً، ويزداد فاتح عبد السلام بعداً ـ بذائقته الساحرة ـ ويكتب سبع قصص بمضامين مشوقة تضرب، بقوة، على قمة الرأس، وتوقظ القارئ الذي اعتاد على نوم القيلولة وهو يقرأ بقية القصص القصيرة؛ فهذه القصص من نمط آخر: مزيج من غارسيا ماركيز، في قصة “الأمسية المدهشة التي قضاها بلتثار”، وفرناندو سابينو، في قصة “رقعة الشطرنج”، والكاتب الساخر جيمس تيرنر.

يكتب فاتح عبد السلام بطريقة أنّ “القصة القصيرة لها أكثر من بطل وأكثر من نهاية”، ولا يقف عند النوافذ ليرى كيف يمشي الزمان، أو كيف يتغير المكان، فليذهب بنفسه ـ هو الراوي العليم ـ ويكتشف القصة، من أجل أن يتأكد من النهايات بعد أن ضمن البدايات. ذلك ما نراه في قصة “عين لندن”، بعد أن فشل المهندس المعماري في الحصول على عمل في وسط العاصمة، ويلتقي فتاة يصعد معها إلى دولاب الملاهي، ويحكي عن رغبته في تهديم لندن وإعادة بنائها، بينما تنتظرها أمها في مكان قريب من الملاهي، وهي تحكي لرجال الشرطة عن اختفاء ابنتها؛ وطبعاً لا أحد يصدق أنها قصة عن الإرهاب. القصة تدور في لندن، ولا شيء يستطيع تغيير معالم لندن. هناك أشخاص ينسبون إلى أنفسهم أعمالاً لا يعرفون عنها شيئاً: “كانت محقة جين فوندا حين قالت في فيلم (إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟).. إنها تعرف أن موتها يكمن في الاحتمال الأخير”، ص16. نعم، هي جين فوندا، وفي الطرف الثاني من الشارع تبحث الشرطة عن رجل بملامح شرقية، ربما (يفعلها) كما جرى في 11 أيلول، ويحرق اليابس والأخضر. عالَم غريب، لكن فاتح عبد السلام لن يذكر أي شيء عن الإرهاب؛ إنه يملك أكثر من معنى وأكثر من بطل، والمهم أن القصة ـ مهما طالت ـ اقتربت من الوضوح، من دون أن تشير إلى النهاية، وهذا سر جمالها. ـ هل متأكد أنك، كما أخبرتني، مهندس معماري ولست حكواتياً؟ يقول لها: العمارة مثل الحكاية، من لا يجيد الحكايات لن يكون معمارياً.

حسناً، يا فاتح، هل متأكد أنك ـ كما أخبرتني ـ “كاتب قصة”، ولست مهندساً معمارياً؟

أذهلني، حقاً، في قصته “الشظية لا تزال في ساقي”، عن رجل خرج من إحدى الحروب العراقية بشظية في إحدى ساقيه، ثم يرحل إلى لندن، ويعيش مع صديق كردي من السليمانية. يدور الحديث عن الطعام، والشاي، والتظاهرات السلمية، وأشياء غريبة تنتهي بصمت يفوق ـ في عنفوانه ـ الضجة، وفي اليوم التالي ينضم دون إرادته إلى اضراب للسائقين، في لندن، لزيادة الأجور، لكنه لا يعرف سبب التظاهرة. ولأنه تذكر الحرب، والشظية التي راحت توخزه بقوة، فقد راح يضرب اثنين من رجال الشرطة بقسوة تقترب من الجنون، حتى كادا أن يموتا تحت يديه. وعندما أخذوه للتحقيق قال إنه يتظاهر ضد الحرب؛ بدليل: “يا سيدي، أنظر الشظية لا تزال في ساقي”، في وصف لاذع حزين للطائرة التي قذفت، والحرب التي انصرمت. وشرح لدخوله حمى المضربين، الذين توهمهم أعداء، ما دامت خوذ الحرب التي يعتمرونها تشير إلى ذلك، كما إنني تذكرت فيلم “الرصاصة ما تزال في جيبي”، قبل أن أدخل غمار المعارك في سيناء، أو في أدنبرة، وربما في قلب العاصمة البريطانية، ذلك أن الشظية لم تزل في قلب كل عراقي حتى الآن. القصص جميعها تمر بلندن، أو تشير إليها، أو يأتي ذكرها، وهذه المرة عن مريض كان ـ في ما مضى ـ بطلاً في ركض المسافات القصيرة. الجميع يتكلم عن مرضه الغامض: زوجته، وابنه، والجيران، والذاهب، أو القادم من، وهو الصامت الوحيد بينهم. وعندما أخذوه إلى الطبيب العربي صار يكتب له السؤال على ورقة فيأتيه الجواب كلاماً مسموعاً واضحاً: “أول مرة أشعر بالحالة كانت عندما حدث انفجار سيارة ملغمة قرب بيتي، خرج حينها الناس كالمجانين من البيوت، كانوا مذعورين صارخين، وكذلك خرجت زوجتي وأبنائي، وبقيت أنا لا أعرف ما يدور حولي، قالوا إن الانفجار كان قوياً درجة نسفه أعمدة الكهرباء الضخمة، وخزانات المياه، ودمر واجهات البيوت”، ص52. ويستمر المريض في الكلام حتى نهاية القصة، حيث يقول: “دكتور، لا حاجة بك أن تكتب لي أسئلتك على الورقة، أنا أسمعك جيداً، والمهم أنك أول شخص يسمعني جيداً”، ص57. تلك كانت (ماراثون المسافات القصيرة)، التي نطقت بالكثير عندما سكتت بقية العائلة، ونطق المريض الغامض. في القصة الرابعة، “الناقوس لا يقرع الآحاد”، التي ـ برغم أنها أقصر القصص ـ تطول بإحساس مرير عن رجل بريطاني يذهب ابنه إلأى الحرب؛ مرة في العراق، ثم في أفغانستان: “سيعود إليك سالماً، لا تقلق، ألم تكن أنت جندياً ذات يوم؟”.. لكن الأزمنة تختلف، وكذلك الأسلحة، فهو يصغي لناقوس الكنيسة إذا ما جاء في غير أوان الصلاة. قد يكون النذير جندياً آخر مات هناك: في الشرق. وفاتح عبد السلام لا يخبرك بشيء، ثمة دائماً أكثر من نهاية وأكثر من بطل، وحتى إذا غاب المعنى ستعثر على معنى بديل، فهو مثل توماس، بطل القصة: “جيلنا لا يقاس بالسنوات ولكن بالأحداث”، ص61. كنت أشير بسبابتي إلى فاتح عبد السلام وأنا أقول لزوجتي: “هذا رجل تعلم أن يستفيد من وقته وهجرته”، عندما قرأت “لحظة الاستنساخ البشري”، وهي واحدة من القصص الممتعة والممتازة، عن تلميذ يلتقي معلم الإعدادية، في لندن، وكذلك إحدى الصبايا اللائي عرفهن في بغداد ـ ذات يوم ـ قبل ردح من الزمن.

المدير الذي ما يزال على حيوته، برغم أنه في الستين من العمر، يحمل عصا ليس في حاجة إليها لكنه “يهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى”، ص72، ولا شأن له بالشرطة ولا بالسياسة، لكنه قال بيتين من الشعر، فجاءت إليه الحشود تكاد تحمله على الأكتاف؛ تصرخ به: “هذا يومك يا شاعر المدينة، يا شاعر الجياع والعمال والمعوزين، كنت أسمع صوت المتظاهرين وقد احتشدت في حنجرة واحدة تنادي باسمي”، ص73. وعندما فارقه المتظاهرون لم يستطع الدخول إلى منزله؛ فقد ضاقت به النوافذ والأبواب، لا يدري لماذا تركوه وحيداً. صارت الشرطة هي الكائن الوحيد برؤوس كثيرة في الدنيا، بينما الصبية ما تزال في الذاكرة. الراوي يرتكب أخطاء قريبة من بعضها، لكنه لن يستنسخها، أبداً، ذلك أن القصة لها أكثر من بطل، وأكثر من نهاية؛ بالتالي لها أكثر من زمكان، وما على المؤلف غير أن يختار البداية، وطبعاً تمر الشخصيات من دون أن يتكلم أي واحد منها، فما كان المشهد سوى طيف يمرق من رصيف هنا، رصيف مكسور هناك، لرجل لا يعرف أن ثمة من يراقبه، وامرأة أغفلت ونسيت شبابها ـ منذ ثلاثين عاماً ـ في بغداد. المؤلف يفترض أن القارئ يفكر بطريقته، والقارئ يفترض أن المؤلف أراد هذا المعنى، وكلاهما ليس على حق. ثمة تفسير يقع فيه كل واحد من الطرفين، حتى تكاد القصة تصبح غيرها عند نهايتها: “اختلطت، عندي، المشاهد والذكريات والمشاعر كلها، وأمسكت بي لحظة يأس مجنونة، شعرت كأنني أفقد كل شيء دفعة واحدة، وأملك كل شيء في اللحظة ذاتها، حين وجدته يعبر من رصيفه نحوي”، ص80. في قصة “حديقة عباس في ساوث هول” تحدث أمور غريبة، حقاً، حيث يصل أبو عباس ساوث هول، ويعتني بحديقة ابنه فوراً. “ولما أراد ابنه عباس أن يرتاح من وعثاء السفر يقول الأب: ـ كنت أسمع رجلاً مباركاً، عندنا في البنجاب، كان يقول دائماً عن الأرض: بركان مؤجل، ولا بد أن يعمل الإنسان على جعل الأرض تنسى أنها كذلك، علينا أن نلهي الأرض بعمل ما، ولم يكن يصدق ذلك الرجل المبارك إلا القلة من كبار السن”، ص88. ولهذا يستمر الرجل في حرث الحديقة، ثم هندستها، وتبدأ الناس تسمع بما جرى عن الأرض المباركة. صارت ساوث هول مثل عنقود بحبات مضيئة، وصار الناس يكتبون ’عباس‘ على بريده الإلكتروني، مقابل أجرة مقطوعة، حتى كبر رصيده في البنك، وصار غنياً بما حصل عليه من خيرات الحديقة، حتى وصل الأمر قصر باكنهام، والملكة شخصياً، ثم جاءه رجال القصر في رسالة: “هل الأرض تبقى مباركة إذا حرثها شخص بديل؟” فقال لهم: “التعديل ضروري”، وطلبوا رؤية الأب؛ ربما ليتباركوا به، لكن عباس قال: “أبي غادر العراق منذ سبع سنوات، وتوفي هناك قبل سنتين. أي اختصار لقصة كهذه خيانة لها، فالقصة القصيرة ـ بأساسها ـ مختصرة؛ فكيف نجري تقطيعاً لها وهي المقطوعة، أصلاً، من جذوره؛، أعني من الرواية والحكاية؟

القصص جميعها مغلفة بشاعرية التفكير، كما لو أنه يكتب قصيدة منثورة، أو قصة مترجمة. أتذكر الكتاب الذي ترجمه الراحل علي جواد الطاهر “سارتر وآخرون” كيف اختار تلك القصص الجارحة والشفافة في الوقت نفسه. شعرت بهذا وأنا أقرأ القصة السابعة والأخيرة “جنية الساعة الحادية عشرة”، عندما يراقب البطل ـ من شباك غرفته ـ “تلك السيدة العرجاء التي تأتي في تمام الحادية عشرة، وتقطع الطريق حتى آخر زاوية من الشارع، لتختفي ـ فجأة ـ عن الأنظار. سيدة طاعنة في السن؛ مواظبة على الظهور في موعد ثابت لا تؤثر فيه أجواء لندن القاسية”، ص100، وصار يؤمن أنها جنية من النوع المسالم، ولكن “لماذا هي عرجاء إذا كانت جنية؟”، ثم تستمر الحياة على ذاك المنوال حتى تعصف بلندن الأمطار والعواصف، ويأتيه جاره الكاريبي ليخبره عن وفاتها، “وكيف عرفت أنها ماتت؟ يقول له: هي امرأة مسكينة صنعنا لها فتحة في السور الخشبي من دارنا لتقطع الطريق إلى دارها؛ لئلا تدور بعد مسافة بعيدة بيتها”، أما المؤلف أو الراوي فهو مصمم على أنها جنية وستظهر ثانية في الموعد نفسه.

نعم، القصة لها أكثر من بطل وأكثر من نهاية، وكان فاتح عبد السلام (المبدع، حقاً) يستطيع أن يرسم نهاية غير هذه، لكن سلوكه في التفكير خارجٌ على سلوك بقية السرب من النوارس المشاكسة في القصة القصيرة، عربياً وعراقياً.

هذه المجموعة قرأتها في يوم واحد، وقلت عنها كما قلت عن رواية “الحفيدة الأميركية”، للمبدعة إنعام كجه جي: إنها مفاجأة. وبما أن المجموعة من سبع قصص، فقد قلت: “هذه مفاجأة”، بعد كل واحدة منها.

* عين لندن، قصص، فاتح عبد السلام، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2011، بيروت.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

3 تعليقات

  1. عيسى حسن الياسري

    ايها العزيز والمبدع الكبير اخي وحبيبي عبد الستار ناصر .. كم كان فرحي كبيرا وغامرا في هذا الصباح المونتريالي الموشى بربيع مبكر وانا اقرأ مقالتك في موقعنا الموقر “الناقد العراقي “لاتاكد ان عبد الستار طفلنا الجميل والمرح والنادر الطيبة ما زال بخير ..اعرف انك في كندا ..ولم يدلني احد على بريدك ..يحزنني جدا ان  نكزن هنا ولا نتواصل .. ارجو ان تكون بصحة جيدة ..وتحيات الى المبدعة المخلصة لك ولفنها هدية .. مع تمنيات الصحة والعافية لك ايها الاخ الرائع .. اخوك ..عيسى حسن الياسري

  2. جواد الحطاب

    ابو عمر .. ايها الولد الفاتن الذي لا يشيخ .. هل احسست بدفء انفاسي على وجهك .. هل احسست ؟ من بين دموعي قبلت وجنتيك .. ويا هدية .. ايتها الوفية الغالية .. طمنينا على ستار وهذه ايميلاتي .. ارجوك .

    aanchido@yahoo.com alsumary1@gmail.com

  3. جمال الدين دراويل-تونس

    رؤية نقدية من قاص خبير يعرف ما يقول بعمق  . قرأت القصص المدهشة في عين لندن الاسبوع الفائت ووجدت ان الدهشة والمفاجأة  قارتان فيها على نحو مذهل  , ولما تحصلت بمقال ناصر استكملت لذة القراءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *